فصل: فَصْلٌ: (إِذَا غَصَبَ مَالًا وَمَاتَ رَبُّهُ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَيْهِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: [حُقُوقُ الْعِبَادِ]:

وَأَمَّا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا فَيُتَصَوَّرُ فِي مَسَائِلَ:
إِحْدَاهَا: مَنْ غَصَبَ أَمْوَالًا ثُمَّ تَابَ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهَا إِلَى أَصْحَابِهَا أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِمْ لِجَهْلِهِ بِهِمْ أَوْ لِانْقِرَاضِهِمْ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَاخْتُلِفَ فِي تَوْبَةِ مِثْلِ هَذَا.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَوْبَةَ لَهُ إِلَّا بِأَدَاءِ هَذِهِ الْمَظَالِمِ إِلَى أَرْبَابِهَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ قَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَقَدْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ، وَالْقِصَاصُ أَمَامَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَيْسَ إِلَّا.
قَالُوا: فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَتْرُكُ مِنْ حُقُوقِ عِبَادِهِ شَيْئًا، بَلْ يَسْتَوْفِيهَا لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَلَا يُجَاوِزُهُ ظُلْمُ ظَالِمٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْخُذَ لِلْمَظْلُومِ حَقَّهُ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلَوْ لَطْمَةً وَلَوْ كَلِمَةً وَلَوْ رَمْيَةً بِحَجَرٍ.
قَالُوا: وَأَقْرَبُ مَا لِهَذَا فِي تَدَارُكِ الْفَارِطِ مِنْهُ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الْحَسَنَاتِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْوَفَاءِ مِنْهَا يَوْمَ لَا يَكُونُ الْوَفَاءُ بِدِينَارٍ وَلَا بِدِرْهَمٍ فَيَتَّجِرُ تِجَارَةً يُمْكِنُهُ الْوَفَاءُ مِنْهَا، وَمِنْ أَنْفَعِ مَا لَهُ: الصَّبْرُ عَلَى ظُلْمِ غَيْرِهِ لَهُ وَأَذَاهُ وَغِيبَتِهِ وَقَذْفِهِ، فَلَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا يُقَابِلُهُ لِيُحِيلَ خَصْمَهَ عَلَيْهِ إِذَا أَفْلَسَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنَّهُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا عَلَيْهِ يَسْتَوْفِي أَيْضًا مَا لَهُ، وَقَدْ يَتَسَاوَيَانِ، وَقَدْ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُوقَفُ أَمْرُهَا وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا الْبَتَّةَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَدْفَعُهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ; لِأَنَّهُ وَكِيلُ أَرْبَابِهَا فَيَحْفَظُهَا لَهُمْ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلْ بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ لِهَذَا وَلَمْ يُغْلِقْهُ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا عَنْ مُذْنِبٍ، وَتَوْبَتُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ عَنْ أَرْبَابِهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ كَانَ لَهُمُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُجِيزَا مَا فَعَلَ وَتَكُونَ أُجُورُهَا لَهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُجِيزُوا وَيَأْخُذُوا مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِ أَمْوَالِهِمْ وَيَكُونَ ثَوَابُ تِلْكَ الصَّدَقَةِ لَهُ إِذْ لَا يُبْطِلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ثَوَابَهَا، وَلَا يَجْمَعُ لِأَرْبَابِهَا بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، فَيُغَرِّمُهُ إِيَّاهَا وَيَجْعَلُ أَجْرَهَا لَهُمْ وَقَدْ غُرِّمَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِهَا.
وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَحَجَّاجِ بْنِ الشَّاعِرِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً وَدَخَلَ يَزِنُ لَهُ الثَّمَنَ، فَذَهَبَ رَبُّ الْجَارِيَةِ، فَانْتَظَرَهُ حَتَّى يَئِسَ مِنْ عَوْدِهِ، فَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ رَبِّ الْجَارِيَةِ فَإِنْ رَضِيَ فَالْأَجْرُ لَهُ، وَإِنْ أَبَى فَالْأَجْرُ لِي وَلَهُ مِنْ حَسَنَاتِي بِقَدْرِهِ، وَغَلَّ رَجُلٌ مِنَ الْغَنِيمَةِ ثُمَّ تَابَ فَجَاءَ بِمَا غَلَّهُ إِلَى أَمِيرِ الْجَيْشِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ وَقَالَ: كَيْفَ لِي بِإِيصَالِهِ إِلَى الْجَيْشِ وَقَدْ تَفَرَّقُوا؟ فَأَتَى حَجَّاجَ بْنَ الشَّاعِرِ فَقَالَ: يَا هَذَا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْجَيْشَ وَأَسْمَاءَهُمْ وَأَنْسَابَهُمْ، فَادْفَعْ خُمُسَهُ إِلَى صَاحِبِ الْخُمُسِ وَتَصَدَّقْ بِالْبَاقِي عَنْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يُوصِلُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ- أَوْ كَمَا قَالَ- فَفَعَلَ، فَلَمَّا أَخْبَرَ مُعَاوِيَةَ قَالَ: لَأَنْ أَكُونَ أَفْتَيْتُكَ بِذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نِصْفِ مُلْكِي.
قَالُوا: وَكَذَلِكَ اللُّقَطَةُ إِذَا لَمْ يَجِدْ رَبَّهَا بَعْدَ تَعْرِيفِهَا وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، تَصَدَّقَ بِهَا عَنْهُ، فَإِنْ ظَهَرَ مَالِكُهَا خَيَّرَهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالضَّمَانِ.
قَالُوا: وَهَذَا لِأَنَّ الْمَجْهُولَ فِي الشَّرْعِ كَالْمَعْدُومِ، فَإِذَا جُهِلَ الْمَالِكُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ، وَهَذَا مَالٌ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَعْطِيلِ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ وَالضَّرَرِ بِمَالِكِهِ وَبِالْفُقَرَاءِ وَبِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، أَمَّا الْمَالِكُ فَلِعَدَمِ وُصُولِ نَفْعِهِ إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْفُقَرَاءُ، وَأَمَّا مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ فَلِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْخَلَاصِ مِنْ إِثْمِهِ فَيَغْرَمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ انْتِفَاعٍ بِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا تُبِيحُهُ شَرِيعَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَأْمُرَ بِهِ وَتُوجِبَهُ، فَإِنَّ الشَّرَائِعَ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَصَالِحِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلَ الْمَفَاسِدِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَتَقْلِيلِهَا، وَتَعْطِيلُ هَذَا الْمَالِ وَوَقْفُهُ وَمَنْعُهُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَفْسَدَةٌ مَحْضَةٌ لَا مَصْلَحَةَ فِيهَا فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ.
قَالُوا: وَقَدِ اسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ الْعُرْفِيَّ كَاللَّفْظِيِّ، فَمَنْ رَأَى بِمَالِ غَيْرِهِ مَوْتًا- وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِذَبْحِهِ- فَذَبَحَهُ إِحْسَانًا إِلَى مَالِكِهِ وَنُصْحًا لَهُ فَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ عُرْفًا وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ سَفِيهًا، فَإِذَا ذَبَحَهُ لِمَصْلَحَةِ مَالِكِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ; لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ وَ{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} وَكَذَلِكَ إِذَا غَصَبَهُ ظَالِمٌ، أَوْ خَافَ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَصَالَحَهُ عَلَيْهِ بِبَعْضِهِ لِيَسْلَمَ الْبَاقِي لِمَالِكِهِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ، أَوْ رَآهُ آيِلًا إِلَى تَلَفٍ مَحْضٍ فَبَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا مِنَ الْمَالِكِ، وَقَدْ بَاعَ عُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ الْبَارِقِيُّ- وَكَيْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِلْكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَفْظًا وَاشْتَرَى لَهُ بِبَعْضِ ثَمَنِهِ مِثْلَ مَا وَكَّلَهُ فِي شِرَائِهِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ كُلِّهِ، ثُمَّ جَاءَهُ بِالثَّمَنِ وَبِالْمُشْتَرَى فَقَبِلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لَهُ.
وَأُشْكِلَ هَذَا عَلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. وَبَنَاهُ عَلَى تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ، فَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْفُضُولِيَّ لَا يَقْبِضُ وَلَا يُقْبِضُ، وَهَذَا قَبَضَ وَأَقْبَضَ.
وَبَنَاهُ آخَرُونَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ وَكِيلًا مُطْلَقًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا أَفْسَدُ مِنَ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَكَّلَ أَحَدًا وَكَالَةً مُطْلَقَةً الْبَتَّةَ، وَلَا نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ مُسْلِمٌ.
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: أَنَّ الْإِذْنَ الْعُرْفِيَّ كَالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ، وَمَنْ رَضِيَ بِالْمُشْتَرِي وَخَرَجَ ثَمَنُهُ عَنْ مِلْكِهِ. فَهُوَ بِأَنْ يَرْضَى بِهِ وَيُحَصِّلَ لَهُ الثَّمَنَ أَشَدُّ رِضًى.
وَنَظِيرُ هَذَا مَرِيضٌ عَجَزَ أَصْحَابُهُ فِي السَّفَرِ أَوِ الْحَضَرِ عَنِ اسْتِئْذَانِهِ فِي إِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فِي عِلَاجِهِ وَخِيفَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ يُخْرِجُونَ مِنْ مَالِهِ مَا هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا مَصْلَحَتُهُ وَحُسْنُهُ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ الْخَلْقِ وَلَا تَأْتِي شَرِيعَةٌ بِتَحْرِيمِهِ كَثِيرٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَالِ الَّذِي قَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَشَدُّ شَيْءٍ رِضًى بِوُصُولِ نَفْعِهِ الْأُخْرَوِيِّ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَكْرَهُ شَيْءٍ لِتَعْطِيلِهِ أَوْ إِبْقَائِهِ مَقْطُوعًا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ ثَوَابُ مَالِهِ سَرَّهُ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ سُرُورِهِ بِوُصُولِهِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يُقَالُ: مَصْلَحَةُ تَعْطِيلِ هَذَا الْمَالِ- عَنِ انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ وَالْمَسَاكِينِ بِهِ وَمَنْ هُوَ بِيَدِهِ- أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ إِنْفَاقِهِ شَرْعًا؟ بَلْ أَيُّ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ فِي هَذَا التَّعْطِيلِ؟ وَهَلْ هُوَ إِلَّا مَحْضُ الْمَفْسَدَةِ؟.
وَلَقَدْ سُئِلَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، سَأَلَهُ شَيْخٌ، فَقَالَ: هَرَبْتُ مِنْ أُسْتَاذِي وَأَنَا صَغِيرٌ إِلَى الْآنِ، لَمْ أَطَّلِعْ لَهُ عَلَى خَبَرٍ، وَأَنَا مَمْلُوكٌ وَقَدْ خِفْتُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأُرِيدُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِي مِنْ حَقِّ أُسْتَاذِي مِنْ رَقَبَتِي، وَقَدْ سَأَلْتُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُفْتِينَ، فَقَالُوا لِي: اذْهَبْ فَاقْعُدْ فِي الْمُسْتَوْدَعِ فَضَحِكَ شَيْخُنَا وَقَالَ: تَصَدَّقْ بِقِيمَتِكَ- أَعْلَى مَا كَانَتْ- عَنْ سَيِّدِكَ، وَلَا حَاجَةَ لَكَ بِالْمُسْتَوْدَعِ تَقْعُدُ فِيهِ عَبَثًا فِي غَيْرِ مُصْلِحَةٍ وَإِضْرَارًا بِكَ وَتَعْطِيلًا عَنْ مَصَالِحِكَ، وَلَا مَصْلَحَةَ لِأُسْتَاذِكَ فِي هَذَا، وَلَا لَكَ وَلَا لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [إِذَا عَاوَضَ غَيْرَهُ مُعَاوَضَةً مُحَرَّمَةً]:

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا عَاوَضَ غَيْرَهُ مُعَاوَضَةً مُحَرَّمَةً، وَقَبَضَ الْعِوَضَ- كَالزَّانِيَةِ وَالْمُغَنِّي وَبَائِعِ الْخَمْرِ وَشَاهِدِ الزُّورِ وَنَحْوِهِمْ- ثُمَّ تَابَ وَالْعِوَضُ بِيَدِهِ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَرُدُّهُ إِلَى مَالِكِهِ إِذْ هُوَ عَيْنُ مَالِهِ، وَلَمْ يَقْبِضْهُ بِإِذْنِ الشَّارِعِ وَلَا حَصَلَ لِرَبِّهِ فِي مُقَابَلَتِهِ نَفْعٌ مُبَاحٌ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ تَوْبَتُهُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ، وَلَا يَدْفَعُهُ إِلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ أَصْوَبُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّ قَابِضَهُ إِنَّمَا قَبَضَهُ بِبَذْلِ مَالِكِهِ لَهُ وَرِضَاهُ بِبَذْلِهِ، وَقَدِ اسْتَوْفَى عِوَضَهُ الْمُحَرَّمَ، فَكَيْفَ يَجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ؟ وَكَيْفَ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَالًا قَدِ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ، وَرَضِيَ بِإِخْرَاجِهِ فِيمَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَيْهَا ثَانِيًا وَثَالِثًا؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا مَحْضُ إِعَانَتِهِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ؟ وَهَلْ يُنَاسِبُ هَذَا مَحَاسِنَ الشَّرْعِ أَنْ يُقْضَى لِلزَّانِي بِكُلِّ مَا دَفَعَهُ إِلَى مَنْ زَنَى بِهَا، وَيُؤْخَذَ مِنْهَا ذَلِكَ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا فَيُعْطَاهُ وَقَدْ نَالَ عِوَضَهُ؟.
وَهَبْ أَنَّ هَذَا الْمَالَ لَمْ يَمْلِكْهُ الْآخِذُ، فَمِلْكُ صَاحِبِهِ قَدْ زَالَ عَنْهُ بِإِعْطَائِهِ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ مَا فِي قُبَالَتِهِ مِنَ النَّفْعِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: مِلْكُهُ بَاقٍ عَلَيْهِ وَيَجِبُ رَدُّهُ إِلَيْهِ؟ وَهَذَا بِخِلَافِ أَمْرِهِ بِالصَّدَقَةِ بِهِ فَإِنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ مِنْ وَجْهٍ خَبِيثٍ بِرِضَى صَاحِبِهِ وَبَذْلِهِ لَهُ بِذَلِكَ، وَصَاحِبُهُ قَدْ رَضِيَ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِذَلِكَ، وَأَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ فَكَانَ أَحَقَّ الْوُجُوهِ بِهِ صَرْفُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا مَنْ قَبَضَهُ وَيُخَفَّفُ عَنْهُ الْإِثْمُ وَلَا يُقَوَّى الْفَاجِرُ بِهِ وَيُعَانُ، وَيُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَهَكَذَا تَوْبَةُ مَنِ اخْتَلَطَ مَالُهُ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَمْيِيزُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقَدْرِ الْحَرَامِ وَيُطَيِّبَ بَاقِي مَالِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [إِذَا غَصَبَ مَالًا وَمَاتَ رَبُّهُ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَيْهِ]:

إِذَا غَصَبَ مَالًا وَمَاتَ رَبُّهُ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَيْهِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى وَارِثِهِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَارِثُ رَدَّهُ إِلَى وَارِثِهِ وَهَلُمَّ جَرَّا، فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ إِلَى رَبِّهِ وَلَا إِلَى أَحَدِ وَرَثَتِهِ فَهَلْ تَكُونُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ لِلْمَوْرُوثِ إِذْ هُوَ رَبُّهُ الْأَصْلِيُّ وَقَدْ غَصَبَهُ عَلَيْهِ أَوْ لِلْوَارِثِ الْأَخِيرِ إِذِ الْحَقُّ قَدِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ؟.
فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ، وَهُمْ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُطَالَبَةُ لِلْمَوْرُوثِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ فَقَدْ ظَلَمَهُ بِتَرْكِ إِعْطَائِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ إِلَيْهِ، فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ فِي الْآخِرَةِ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَتَخَلَّصُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ حُقُوقِ هَؤُلَاءِ.
قِيلَ: طَرِيقُ التَّوْبَةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُمْ بِمَالٍ تَجْرِي مَنَافِعُ ثَوَابِهِ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ مَا فَاتَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ مَنْفَعَةِ ذَلِكَ الْمَالِ لَوْ صَارَ إِلَيْهِ مُتَحَرِّيًا لِلْمُمْكِنِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَكَذَا لَوْ تَطَاوَلَتْ عَلَى الْمَالِ سُنُونَ, وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ رَبَّهُ أَنْ يُنَمِّيَهُ بِالرِّبْحِ، فَتَوْبَتُهُ بِأَنْ يُخْرِجَ الْمَالَ وَمِقْدَارَ مَا فَوَّتَهُ مِنْ رِبْحِ مَالِهِ.
فَإِنْ كَانَ قَدْ رَبِحَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، فَقِيلَ: الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْمَالِكِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقِيلَ: كُلُّهُ لِلْغَاصِبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْدَعَهُ مَالًا فَاتَّجَرَ بِهِ وَرَبِحَ، فَرِبْحُهُ لَهُ دُونَ مَالِكِهِ عِنْدَهُمَا وَضَمَانُهُ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِي الرِّبْحِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاخْتِيَارُ شَيْخِنَا رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، فَتُضَمُّ حِصَّةُ الْمَالِكِ مِنَ الرِّبْحِ إِلَى أَصْلِ الْمَالِ وَيُتَصَدَّقُ بِذَلِكَ.
وَهَكَذَا لَوْ غَصَبَ نَاقَةً أَوْ شَاةً فَنَتَجَتْ أَوْلَادًا، فَقِيلَ: أَوْلَادُهَا كُلُّهَا لِلْمَالِكِ، فَإِنْ مَاتَتْ- أَوْ شَيْءٌ مِنَ النِّتَاجِ- رَدَّ أَوْلَادَهَا وَقِيمَةَ الْأُمِّ وَمَا مَاتَ مِنَ النِّتَاجِ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا مَاتَتْ فَرَبُّهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهَا يَوْمَ مَاتَتْ وَتَرْكِ نِتَاجِهَا لِلْغَاصِبِ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِتَاجِهَا وَتَرْكِ قِيمَتِهَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ الرَّاجِحِ يَكُونُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَهُ نِصْفُ النِّتَاجِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [هَلْ مِنْ الذُنُوبٍ ذَنْبٌ لَا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ؟]:

اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ مِنَ الذُّنُوبِ ذَنْبٌ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ أَمْ لَا؟
فَقَالَ الْجُمْهُورُ: التَّوْبَةُ تَأْتِي عَلَى كُلِّ ذَنْبٍ، فَكُلُّ ذَنْبٍ يُمْكِنُ التَّوْبَةُ مِنْهُ وَتُقْبَلُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَوْبَةَ لِلْقَاتِلِ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَعْرُوفُ عَنْهُ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَدْ نَاظَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إِلَى أَنْ قَالَ: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} فَقَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَزَنَوْا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَاهُ كَفَّارَةً، فنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الْآيَةَ، فَهَذِهِ فِي أُولَئِكَ، وَأَمَّا الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} فَالرَّجُلُ إِذَا عَرَفَ الْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَهُ ثُمَّ قَتَلَ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: لَمَّا نَزَلَتِ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} عَجِبْنَا مِنْ لِينِهَا فَلَبِثْنَا سَبْعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ نَزَلَتِ الْغَلِيظَةُ بَعْدَ اللَّيِّنَةِ فَنَسَخَتِ اللَّيِّنَةَ، وَأَرَادَ بِالْغَلِيظَةِ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَبِاللَّيِّنَةِ آيَةَ الْفُرْقَانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آيَةُ الْفُرْقَانِ مَكِّيَّةٌ، وَآيَةُ النِّسَاءِ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ وَلَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ.
قَالَ هَؤُلَاءِ: وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا مُتَعَذَّرَةٌ إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَيْهَا إِلَّا بِاسْتِحْلَالِهِ أَوْ إِعَادَةِ نَفْسِهِ- الَّتِي فَوَّتَهَا عَلَيْهِ- إِلَى جَسَدِهِ إِذِ التَّوْبَةُ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِأَحَدِهِمَا، وَكِلَاهُمَا مُتَعَذَّرٌ عَلَى الْقَاتِلِ، فَكَيْفَ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ مِنْ حَقِّ آدَمِيٍّ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَحِلَّهُ مِنْهُ؟.
وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ هَذَا فِي الْمَالِ إِذَا مَاتَ رَبُّهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ إِيَّاهُ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِيصَالِ نَظِيرِهِ إِلَيْهِ بِالصَّدَقَةِ.
قَالُوا: وَلَا يُرَدُّ عَلَيْنَا أَنَّ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنَ الْقَتْلِ وَتَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ فَالتَّوْبَةُ مِنْهُ مُمْكِنَةٌ، وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّ فَالتَّوْبَةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَدَائِهِ إِلَيْهِ وَاسْتِحْلَالِهِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فَهَذِهِ فِي حَقِّ التَّائِبِ وَبِقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فَهَذِهِ فِي حَقِّ غَيْرِ التَّائِبِ; لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَمَا دُونَهُ، وَعَلَّقَ الْمَغْفِرَةَ بِالْمَشِيئَةِ فَخَصَّصَ وَعَلَّقَ وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا عَمَّمَ وَأَطْلَقَ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} فَإِذَا تَابَ هَذَا الْقَاتِلُ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ غَفَّارٌ لَهُ.
قَالُوا: وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثُ الَّذِي قَتَلَ الْمِائَةَ ثُمَّ تَابَ فَنَفَعَتْهُ تَوْبَتُهُ وَأُلْحِقَ بِالْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ الَّتِي خَرَجَ إِلَيْهَا، وَصَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ»، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.
قَالُوا: وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى «ابْنَ آدَمَ لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا لَقِيتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَقَالَ «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَقَالَ «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ» وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» وَفِيهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُخْرِجَنَّ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَأَضْعَافُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ.
قَالُوا: وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ فَهِيَ نَظَائِرُ أَمْثَالِهَا مِنْ نُصُوصِ الْوَعِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ يَتَوَجَّأُ بِهَا خَالِدًا مُخَلَّدًا فِي نَارِ جَهَنَّمَ» وَالْقَوْلُ فِي خُلُودِ الْمُسْلِمِ فِيهَا وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ عَلَى طُرُقٍ:
أَحَدِهَا: الْقَوْلُ بِظَاهِرِهَا، وَتَخْلِيدِ أَرْبَابِ هَذِهِ الْجَرَائِمِ فِي النَّارِ، وَهُوَ قَوْلُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا.
فَقَالَتِ الْخَوَارِجُ: هُمْ كُفَّارٌ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ إِلَّا كَافِرٌ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَيْسُوا بِكُفَّارٍ بَلْ فُسَّاقٍ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ هَذَا الْوَعِيدُ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِلِّ لَهَا; لِأَنَّهُ كَافِرٌ، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهَا مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهَا فَلَا يَلْحَقُهُ هَذَا الْوَعِيدُ- وَعِيدُ الْخُلُودِ- وَإِنْ لَحِقَهُ وَعِيدُ الدُّخُولِ.
وَقَدْ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: لَوِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ كَانَ كَافِرًا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَالَ: مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ: الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ النُّصُوصِ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ أَلْفَاظٌ عَامَّةٌ، وَمِنْ هَاهُنَا أَنْكَرَ الْعُمُومَ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَقَصْدُهُمْ تَعْطِيلُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ بِهَا، لَكِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الشَّرْعِ جُمْلَةً، بَلْ تَعْطِيلَ عَامَّةِ الْأَخْبَارِ، فَهَؤُلَاءِ رَدُّوا بَاطِلًا بَأَبْطَلَ مِنْهُ، وَبِدْعَةً بِأَقْبَحَ مِنْهَا، وَكَانُوا كَمَنْ رَامَ أَنْ يَبْنِيَ قَصْرًا فَهَدَمَ مِصْرًا.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ رَابِعَةٌ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ.
قَالُوا: وَالْإِضْمَارُ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْمُضْمَرِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِإِضْمَارِ الشَّرْطِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَزَاؤُهُ كَذَا إِنْ جَازَاهُ أَوْ إِنْ شَاءَ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ خَامِسَةٌ بِإِضْمَارِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَزَاؤُهُ كَذَا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ، وَهَذِهِ دَعْوَى لَا دَلِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا الْبَتَّةَ وَلَكِنَّ إِثْبَاتَهَا بِأَمْرِ خَارِجٍ عَنِ اللَّفْظِ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ سَادِسَةٌ: هَذَا وَعِيدٌ، وَإِخْلَافُ الْوَعِيدِ لَا يُذَمُّ بَلْ يُمْدَحُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ عَلَيْهِ إِخْلَافُ الْوَعِيدِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ خُلْفُ الْوَعْدِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَعِيدَ حَقُّهُ فَإِخْلَافُهُ عَفْوٌ وَهِبَةٌ وَإِسْقَاطٌ، وَذَلِكَ مُوجَبُ كَرَمِهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَالْوَعْدُ حَقٌّ عَلَيْهِ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ.
قَالُوا: وَلِهَذَا مَدَحَ بِهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ يَقُولُ:
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي ** وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ

وَتَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: يَا أَبَا عَمْرٍو لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَقَدْ قَالَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الْآيَةَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَمْرٍو: وَيْحَكَ يَا عَمْرُو، مِنَ الْعُجْمَةِ أَتَيْتَ، إِنَّ الْعَرَبَ لَا تَعُدُّ إِخْلَافَ الْوَعِيدِ ذَمًّا بَلْ جُودًا وَكَرَمًا، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَلَا يُرْهِبُ ابْنَ الْعَمِّ مَا عِشْتُ صَوْلَتِي ** وَلَا يَخْتَشِي مِنْ سَطْوَةِ الْمُتَهَدِّدِ

وَإِنِّي إِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ** لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ سَابِعَةٌ: هَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا ذُكِرَ فِيهِ الْمُقْتَضِي لِلْعُقُوبَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ مُقْتَضِي الْحُكْمِ وَجُودُهُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ وَانْتِفَاءِ مَانِعِهِ، وَغَايَةُ هَذِهِ النُّصُوصِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ كَذَا سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ وَمُقْتَضٍ لَهَا، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى ذِكْرِ الْمَوَانِعِ، مِنْ خُلُودِ الْمُسْلِمِ فِي النَّارِ فَبَعْضُهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَبَعْضُهَا بِالنَّصِّ، فَالتَّوْبَةُ مَانِعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالتَّوْحِيدُ مَانِعٌ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي لَا مَدْفَعَ لَهَا، وَالْحَسَنَاتُ الْعَظِيمَةُ الْمَاحِيَةُ مَانِعَةٌ، وَالْمَصَائِبُ الْكِبَارُ الْمُكَفِّرَةُ مَانِعَةٌ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الدُّنْيَا مَانِعٌ بِالنَّصِّ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَعْطِيلِ هَذِهِ النُّصُوصِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِعْمَالِ النُّصُوصِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
وَمِنْ هَاهُنَا قَامَتِ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ اعْتِبَارًا بِمُقْتَضِي الْعِقَابِ وَمَانِعِهِ وَإِعْمَالًا لِأَرْجَحِهَا.
قَالُوا: وَعَلَى هَذَا بِنَاءُ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ وَمَفَاسِدِهِمَا، وَعَلَى هَذَا بِنَاءُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ السَّارِيَةِ فِي الْوُجُودِ، وَبِهِ ارْتِبَاطُ الْأَسْبَابِ وَمُسَبِّبَاتِهَا خَلْقًا وَأَمْرًا، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ ضِدٍّ ضِدًّا يُدَافِعُهُ وَيُقَاوِمُهُ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ لِلْأَغْلَبِ مِنْهُمَا، فَالْقُوَّةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِلصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ، وَفَسَادُ الْأَخْلَاقِ وَبَغْيُهَا مَانِعٌ مِنْ عَمَلِ الطَّبِيعَةِ وَفِعْلِ الْقُوَّةِ، وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ قُوَى الْأَدْوِيَةِ وَالْأَمْرَاضِ، وَالْعَبْدُ يَكُونُ فِيهِ مُقْتَضٍّ لِلصِّحَّةِ وَمُقْتَضٍ لِلْعَطَبِ، وَأَحَدُهُمَا يَمْنَعُ كَمَالَ تَأْثِيرِ الْآخَرِ وَيُقَاوِمُهُ، فَإِذَا تَرَجَّحَ عَلَيْهِ وَقَهَرَهُ كَانَ التَّأْثِيرُ لَهُ.
وَمِنْ هَاهُنَا يُعْلَمُ انْقِسَامُ الْخَلْقِ إِلَى مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ وَعَكْسُهُ، وَمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَيَكُونُ مُكْثُهُ فِيهَا بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ مُقْتَضَى الْمُكْثِ فِي سُرْعَةِ الْخُرُوجِ وَبُطْئِهِ.
وَمَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ مُنَوَّرَةٌ يَرَى بِهَا كُلَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَتَفَاصِيلِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ رَأْيَ عَيْنٍ، وَيَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ مُقْتَضَى إِلَهِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ خِلَافُ ذَلِكَ, وَنِسْبَةُ خِلَافِ ذَلِكَ إِلَيْهِ نِسْبَةُ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى بَصِيرَتِهِ كَنِسْبَةِ الشَّمْسِ وَالنُّجُومِ إِلَى بَصَرِهِ، وَهَذَا يَقِينُ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْرِقُ السَّيِّئَاتِ كَمَا تَحْرِقُ النَّارُ الْحَطَبَ.
وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْإِيمَانِ يَسْتَحِيلُ إِصْرَارُهُ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْهُ وَكَثُرَتْ، فَإِنَّ مَا مَعَهُ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ يَأْمُرُهُ بِتَجْدِيدِ التَّوْبَةِ كُلَّ وَقْتٍ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِهِ وَهَذَا مِنْ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ.
فَهَذِهِ مَجَامِعُ طُرُقِ النَّاسِ فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ.